فصل: ثم دخلت سنة خمس وخمسين وستمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء **


  ثم دخلت سنة خمس وخمسين وستمائة

ذكر قتل المعز أيبك التركماني وفـي هذه السنة في يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الأول قتل الملك المعز أيبك التركماني الجاشنكيـر الصالحي قتلته امرأته شجرة الدر التي كانت امرأة أستاذه الملك الصالح أيوب وهي التـي خطـب لهـا بالسلطنة في ديار مصر وكان سبب ذلك‏:‏ أنه بلغها أن المعز أيبك المذكور قد خطـب بنت بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ويريد أن يتزوجها فقتلته في الحمام بعد عوده من لعـب الكـرة فـي النهـار المذكـور وكـان الـذي قتلـه سنجـر الجوجري مملوك الطواشي محسن والخـدام حسبمـا اتفقـت معهـم عليـه شجر الدر وأرسلت في تلك الليلة إصبع المعز أيبك وخاتمه إلى الأمير عز الدين الحلبي الكبير وطلبت منه أن يقوم بالأمر فلم يجسر على ذلك ولما ظهر الخبر أراد مماليك المعز أيبك قتل شجرة الدر فحماها المماليك الصالحية فاتفقت الكلمة على إقامة نور الدين علي ابن الملك المعز أيبك ولقبوه الملك المنصور وعمره يومئذ خمـس عشـرة سنة‏.‏

ونقلت شجرة الدر من دار السلطنة إلى البرج الأحمر وصلبوا الخدام الذين اتفقوا معها على قتل المعز أيبك وهرب سنجر الجوجري ثم ظفروا به وصلبوه واحتيط على الصاحب بهاء الدين علي بن جنا لكونه وزير شجرة الدر وأخذ خطة بستين ألف دينار وفي يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر من هذه السنة اتفقت مماليك المعز أيبك مثل سيف الدين قطز وسنجر الغتمي‏.‏

وبهادر وقبضوا على علم الدين سنجر الحلبي وكان قد صار أتابكاً للملك المنصور نور الدين ابن الملك علي المعز أيبك ورتبوا في أتابكية المذكور أقطاي المستعرب الصالحي‏.‏

وفي سادس عشر ربيع الآخر من السنة المذكورة قتلت شجرة الدر وألقيت خـارج البـرج فحملت إلى تربة قد عملتها فدفنت فيها وكانت تركية الجنس وقيل كانت أرمنية وكانت مع الملـك الصالـح في الاعتقال بالكرك وولدت منه ولداً اسمه خليل مات صغيراً وبعد أيام من ذلك ذكر مفارقة البحرية الملك الناصر يوسف صاحب الشام ابن الملك العزيز‏:‏ في هذه السنة نقل إلى الناصر يوسف أن البحرية يريدون أن يفتكوا به فاستوحش خاطـره منهم وتقدم إليهم بالانتزاح عن دمشق فساروا إلى غزة وانضموا إلى الملك المغيث فتح الدين عمر ابن الملك العادل أبي بكر ابن الملك الكامل وانزعج أهل مصر لقدوم البحرية إلى غزة وبرزوا إلـى العباسـة ووصـل مـن البحريـة جماعـة مقفزيـن إلـى القاهـرة منهـم عـز الديـن الأثـرم فأكرموهم وأفرجوا عن أملاك الأثرم‏.‏

ولما فارق البحرية الناصر صاحب الشام أرسل عسكراً في إثرهم فكبس البحرية ذلك العسكر ونالوا منه ثم إن عسكر الناصر بعد الكبسة كسروا البحرية فانهزموا إلى البلقاء وإلى زعز ملتجين إلى الملك المغيث صاحب الكرك فأنفق فيهم المغيث أموالاً جليلة وأطمعوه في ملك مصر فجهزهم بما احتاجوه وسارت البحرية إلى جهة مصـر وخرجـت عساكـر مصـر لقتالهـم والتقـى المصريـون مـع البحرية وعسكر المغيث بكرة السبت منتصف ذي القعدة من هذه السنة فانهزم عسكر المغيث والبحرية وفيهم بيبرس البند قداري المسمى بعد ذلك بالملك الظاهر إلى جهة الكرك‏.‏

في هذه السنة وصل من الخليفة المستعصم الخلعة والطوق والتقليد إلى الملك الناصر يوسف ابن الملك العزيز‏.‏

وفيها استجار الناصر داود بنجم الدين الباذراي في أن يتوجه صحبته إلى بغداد فأخذه صحبته وتوصل الناصر يوسف صاحب دمشق إلى منعه عن ذلك فلم يتهيأ له وسار الناصر داود مع الباذراي إلى قرقيسيا فأخره الباذراي ليشاور عليه فأقام الناصر داود في قرقيسيا ينتظر الإذن بالقدوم إلى بغداد فلم يؤذن له وطال مقامه فسافر إلى البرية وقصد تيه بني إسرائيل وأقام مع عرب تلك البلاد‏.‏

وفي هذه السنة أو التي قبلها ظهرت نار بالحرة عند مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وكان لها بالليل ضوء عظيم يظهر من مسافة بعيدة جداً ولعلها النار التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة فقال ‏(‏نار تظهر بالحجاز تضيء منها أعناق الإبل ببصـرى‏)‏ ثـم اتفـق أن الخـدام بحـرم النبـي صلـى اللـه عليه وسلم وقع منهم في بعض الليالي تفريط فاشتعلـت النـار فـي المسجـد الشريـف واحترقـت سقوفه ومنبر النبي صلى الله عليه وسلم وتألم الناس لذلك‏.‏

  ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة

  ذكر استيلاء التتر على بغداد

في أول هذه السنة قصد هولاكو ملك التتر بغداد وملكها في العشرين من المحرم وقتل الخليفة المستعصم بالله وسبب ذلك أن وزير الخليفة مؤيد الدين ابن العلقمي كان رافضياً وكان أهل الكـرخ أيضـاً روافـض فجـرت فتنة بين السنية والشيعة ببغداد على جاري عادتهم فأمر أبو بكر ابن الخليفة وركن الدين الدوادار العسكر فنهبوا الكرخ وهتكوا النساء وركبوا منهن الفواحش فعظم ذلك على الوزير ابن العلقمي وكاتب التتر وأطمعهم في ملك بغـداد وكـان عسكر بغداد يبلغ مائة ألف فارس فقطعهم المستعصم ليحمل إلى التتر متحصل إقطاعاتهم وصار عسكر بغداد دون عشرين ألف فارس وأرسل ابن العلقمي إلى التتر أخاه يستدعيهم فساروا قاصدين بغداد في جحفل عظيم وخرج عسكر الخليفة لقتالهم ومقدمه ركن الدين الدوادار والتقوا على مرحلتين من بغداد واقتتلوا قتالاً شديداً فانهزم عسكر الخليفة ودخل بعضهـم بغداد وسار بعضهم إلى جهة الشام ونزل هولاكو على بغداد من الجانب الشرقي ونزل باجو وهو مقدم كبيـر فـي الجانـب الغربـي علـى قريـة قبالـة دار الخلافـة وخـرج مؤيـد الديـن الوزير ابن العلقمي إلى هولاكو فتوثق منه لنفسه وعاد إلى الخليفة المستعصم وقال إن هولاكو يبقيك في الخلافة كما فعل بسلطان الروم ويريد أن يزوج ابنته من ابنك أبي بكر وحسن له الخـروج إلـى هولاكـو فخـرج إليـه المستعصـم فـي جمـع مـن أكابـر أصحابـه فأنـزل فـي خيمـة ثـم استدعـى الوزيـر الفقهاء والأماثل فاجتمع هناك جميع سادات بغداد والمدرسون وكان منهم محي الدين ابن الجوزي وأولاده وكذلك بقي يخرج إلى التتر طائفة بعد طائفة فلما تكاملوا قتلهم التتـر عـن آخرهم ثم مدوا الجسر وعدى باجو ومن معه وبذلوا السيف في بغداد وهجموا دار الخلافة وقتلوا كل من كان فيها من الأشراف ولم يسلم إلا من كان صغيراً فأخذ أسيراً ودام القتـل والنهب في بغداد نحو أربعين يوماً ثم نودي بالأمان‏.‏

وأما الخليفة فإنهم قتلوه ولم يقع الاطلاع علـى كيفيـة قتلـه فقيـل خنـق وقيـل وضـع فـي عـدل ورفسوه حتى مات وقيل غرق في دجلة والله أعلم بحقيقة ذلك‏.‏

وكان هذا المستعصم وهو عبد الله أبو أحمد بن المستنصر أبي جعفر منصور بن محمد الطاهر ابن الإمام الناصر أحمد‏.‏

وقد تقدم ذكر باقي نسبه عند ذكر وفاة الإمام الناصر‏.‏

كان ضعيف الرأي قد غلب عليه أمراء دولته لسوء تدبيره تولى الخلافة بعد مـوت أبيـه المستنصـر في سنة أربعين وستمائة وكانت مدة خلافته نحو ست عشرة سنة تقريباً وهو آخر الخلفاء العباسيين وكـان ابتـداء دولتهـم فـي سنـة اثنتيـن وثلاثيـن ومائـة وهـي السنـة التـي بويـع فيها السفاح بالخلافة وقتل فيها مروان الحمّار آخر خلفاء بني أمية وكانت مدة ملكهم خمس مائة سنة وأربعاً وعشرين سنة تقريباً وعدة خلفائهم سبعة وثلاثـون خليفـة حكـى القاضـي جمـال الديـن ابـن واصل قال‏:‏ لقد أخبرني من أثق به أنه وقف على كتاب عتيق فيه ما صورته أن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بلغ بعض خلفاء بني أمية عنه أنه يقول‏:‏ إن الخلافة تصير إلى ولده فأمر الأموي بعلي بن عبد الله فحمل على جمل وطيف به وضرب وكـان يقـال عنـد ضربـه‏:‏ هـذا جـزاء من يفتري ويقول‏:‏ إن الخلافة تكون في ولده‏.‏

فكان علي بن عبد الله المذكور رحمه الله يقول‏:‏ أي والله لتكونن الخلافة في ولدي لا تزال فيهم حتى يأتيهم العلج من خراسان فينتزعها منهم فوقع مصداق ذلك وهـو ورود هولاكـو وإزالتـه ملـك بنـي العباس‏.‏

الدولة الإسلامية بعد بني العباس ذكر الوقعة بين المغيث صاحب الكرك وعسكر مصر كان قد انضمت البحرية إلى المغيث ابن العادل ابن الكامل ونزل من الكرك وخيم بغزة وجمع الجمـوع وسار إلى مصر في دست السلطنة وخرجت عساكر مصر مع مماليك الملك المعز أيبك وأكبرهـم سيـف الديـن قطز الذي صار صاحب مصر والغتمي وبهادر والتقى الفريقان فكانت الكسرة على المغيث ومن معه فولى منهزماً إلى الكرك في أسوأ حال ونهبت أثقاله ودهليزه‏.‏

  ذكر وفاة الناصر داود

وفي هذه السنة أعني سنة ست وخمسين وستمائة في ليلة السبت السادس والعشرين من جمادى الأولى توفي الملك الناصر داود ابن الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب بظاهر دمشق في قرية يقال لها البويضا ومولده سنة ثلاث وستمائة فكان عمـره نحـو ثلاث وخمسين سنة وكنا قد ذكرنا أخباره في سنة خمس وخمسين وأنه توجه إلى تيه بني إسرائيـل وصـار مـع عرب تلك البلاد وبلغ المغيث صاحب الكرك وصوله إلى تلك الجهة فخشي منه وأرسل إليه فقبض عليه وحمله إلى بلد الشوبك وأمر بحفر مطمورة ليحبسه فيها وبقي الملك الناصر المذكور ممسوكاً والمطمورة تحفر قدامه ليحبس فيها فبينما هو على تلك الحال إذ ورد رسول الخليفة المستعصم يطلبه من بغداد لما قصده التتر ليقدمه على بعض العساكر لملتقى التتر فلما ورد رسول الخليفة إلى دمشق جهزوه إلى المغيـث صاحـب الكـرك ووصـل الرسول إلى موضع الملك الناصر قبل أن يتم المطمورة فأخذه وسار به إلى جهة دمشق فبلغ الرسول استيلاء التتر على بغداد وقتل الخليفة فتركه الرسول ومضى لشأنه فسار الناصر داود إلى البويضا وهي قرية شرقي دمشق وأقام بها ولحق الناس في الشام في تلك المدة طاعون مات منه الناصر داود المذكور في التاريخ المذكور وخرج الملك الناصر يوسف صاحب دمشق إلى البويضا وأظهر عليه الحزن والتأسف ونقله ودفنه بالصالحية في تربة والده المعظم وكان الناصر داود فاضلاً ناظماً ناثـراً وقـرأ العلـوم العقليـة علـى الشيـخ شمـس الديـن عبـد الحميـد الخسروشاهي تلميذ الإمام فخر الدين الرازي وللناصر داود المذكور أشعار جيدة قد تقـدم ذكر بعضها ومن شعره أيضاً‏:‏ عيون عـن السحـر المبيـن تبيـن لها عند تحريك القلوب سكون تصول ببيض وهي سود فرندها ذبول فتور والمجفون جفون وله أيضاً‏:‏ طوفي وقلبي قاتل وشهيد ودمي على خديك منه شهود أما وحبك لست أضمر سلـوة عـن صبوتـي ودع الفـؤاد يبيـد مني بطيفك بعد ما منع الكرى عـن ناظري البعد والتسهيد ومن العجائب أن قلبك لم يلـن لي والحديد ألانـه داود وممـا كتـب بـه فـي أثنـاء مكاتبتـه إلـى الشيـخ عـز الديـن عبـد العزيز بن عبد السلام وكان قد أغارت الفرنج على نابلس في أيام الملك الصالح أيوب صاحب مصر‏:‏ أيا ليت أمي أيم طـول عمرهـا فلم يقضها ربي لمولى ولا بعـل ويا ليتها لما قضاها لسيد لبيب أريب طيب الفرع والأصل قضاها من اللاتي خلقن عواقراً فما بشرت يوماً بأنثى ولا فحل ويا ليتها لما غدت بـي حامـلاً أصيبت بما احتفت عليه من الحمل ويا ليتني لما ولدت وأصبحت تشد إلي الشدقيات بالرحل لحقت بأسلافي فكنت ضجيعهم ولم أر في الإسلام ما فيه من خل والدة الملك المنصور صاحب حماة‏:‏ وفي هذه السنة في ذي القعدة توفيت الصاحبة غازية خاتون بنت السلطان الملـك الكامـل محمـد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب بقلعة حماة رحمها الله تعالى‏.‏

وكان قدومها إلى حماة في سنة تسع وعشرين وستمائة وولد لها من الملك المظفر محمود صاحب حماة ثلاث بنين مات أحدهم صغيراً وكان اسمه عمر وبقي الملك المنصور محمد صاحب حماة وأخوه والد الملك الأفضل علي وولد لها منه ثلاث بنات أيضاً فتوفيت الكبرى منهن وكان اسمها ملكة خاتون قبل وفاة والدتها بقليـل وتوفيـت الصغـرى وهـي دنيـا خاتـون بعـد وفـاة أخيهـا الملـك المنصـور وسنذكر وفاة الباقين في مواضعها إن شاء الله تعالى‏.‏

وكانت الصاحبة غازية خاتون المذكورة من أحسن النساء سيرة وزهداً وعبادة وحفظت الملك لولدها الملك المنصور حتى كبر وسلمته إليه قبل وفاتها رحمها الله تعالى‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث في هذه السنة قصدت التتر ميافارقين بعد استيلائهم على بغداد وكان صاحب ميافارقين حينئذ الملك الكامل محمد ابن الملك المظفر شهاب الدين غازي ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب وكان قد ملكها بعد وفاة أبيه في سنة اثنتين وأربعين وستمائة فحاصره التتر وضايقوا ميافارقين مضايقة شديدة وصبر أهل ميافارقين مع الكامل محمد المذكور على الجوع الشديد ودام ذلك حتى كان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وفيها اشتد الوباء بالشام خصوصاً بدمشق حتى لم يوجد مغسل للموتى‏.‏

وفيها أرسل الملك الناصر يوسـف صاحـب دمشـق ولـده الملـك العزيـز محمـد وصحبتـه زيـن الدين محمد المعروف بالحافظي وهو من أهل قرية عقربا من بلد دمشق بتحف وتقادم إلى هولاكو ملك التتر وصانعه لعلمه بعجزه عن ملتقى التتر‏.‏

وفيها توفي الصاحب بهاء الدين زهير بن محمد بن علي بن يحيى المهلبي كاتب إنشاء الملك الصالح أيوب ومولد البهاء زهير بوادي نخلة من مكة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وفي آخر عمـره انكشف حاله وباع موجوده وكتبه وأقام في ببيته في القاهرة حتى أدركته وفاته بسبب الوباء العام في يوم الأحد رابع ذي القعدة من هذه السنة أعني سنة ست وخمسين وستمائة ودفن بالقرافة الصغرى وكان كريم الطباع غزير المـروءة فاضـلاً حسـن النظـم وشعـره مشهـور كثير فمن شعره وهو وزن مخترع لبس بخرجة العروض أبيات ومنها‏:‏ يـا مـن لعبـت بـه شمول ما ألطـف هـذه الشمائـل ها عبدك واقفاً ذليلاً بالبـاب يمد كف سائل من وصلك بالقليل يرضى والطـل مـن الحبيـب وابـل وفي هذه السنة توفي بمصر الشيخ ركن الدين عبد العظيم شيخ دار الحديث وكان من أئمة الحديث المشهورين‏.‏

وفيها توفـي الشيـخ شمـس الديـن يوسـف سبـط جمـال الديـن ابـن الجـوزي كـان مـن الوعـاظ الفضلاء ألف تاريخاً جامعاً سماه مرآة الزمان وفيها توفي سيف الدين علي بن سابق الدين قزل المعروف بابن المشد وكان أميراً مقدماً في دولة الملك الناصر يوسف صاحب الشام وله شعر حسن منه‏:‏ باكر كؤوس المدام واشرب واستجل وجه الحبيب واطرب ولا تخف للهموم داء فهي دواء له مجرب من يد ساق له رضاب كشهد لكن جناه أعـذب وفيها كان بين البحرية بعد هزيمتهم من المصريين وبين عسكر الملك الناصر يوسف صاحب دمشق ومقدمهم الأمير مجير الدين بن أبي زكري مصاف بظاهر غزة انهزم فيه عسكر الناصر يوسف وأسر مجير الدين المذكور وقوي أمر حرية بعد هذه الكسرة وأكثروا العبث والفساد‏.‏

  ثم دخلت سنة سبع وخمسين وستمائة

فيها سار عز الديـن كيكـاؤوس وركـن الديـن قليـج أرسلان ابنا كيخسرو بن كيقباذ إلى خدمة هولاكو وأقاما معه مدة ثم عادا إلى بلادهما‏.‏

ذكر وفاة بدر الدين صاحب الموصل في هذه السنة توفي بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وكان لقب الملك الرحيم وكان عمره قد جاوز ثمانين سنة ولما مات ملك بعده الموصل ولده الملك الصالح بن لؤلؤ وملك سنجار ولده الآخر علاء الدين بن لؤلؤ وكان بدر الدين قد صانع هولاكو ودخل في طاعته وحمل إليه الأموال ووصل إلى خدمة هولاكو بعد أخذ بغداد ببلاد أذربيجان وكان صحبة لؤلؤ الشريف العلوي بن صلايا فقيل إن لؤلؤ سعى به إلى هولاكو فقتل الشريف المذكور ولما عاد لؤلؤ إلى الموصل لم يطل مقامه بها حتى مات وطالت أيام بدر الدين لؤلؤ في ملك الموصل فإنه كان القائم بأمور أستاذه أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن زنكي بن أقسنقر وقام بتدبير ولده الملك القاهر بن أرسلان شاه ولما توفي الملك القاهر بن أرسلان شاه في سنة خمس عشرة وستمائة انفرد لؤلؤ بتدبير المملكة وأقام ولـدي القاهـر الصغيريـن واحـد بعـد واحـد واستبـد بملـك الموصـل وبلادهـا ثلاثـاً وأربعيـن سنـة تقريبـاً ولـم يـزل فـي ملكـه سعيـداً لـم تطرقه آفة ولم يختل منازلة الملك الناصر يوسف صاحب الشام والكرك وفي هذه السنة لما جرى من البحرية ما ذكرناه من كسر عسكر الناصر يوسف سار الناصر المذكور من دمشق بنفسه وعساكره وسار في صحبته الملك المنصور صاحب حماة بعسكره إلى جهة الكرك وأقام على بركة زيزا محاصراً للملك المغيث صاحب الكرك بسبـب حمايتـه للبحرية ووصل إلى الملك الناصر رسل الملـك المغيـث صاحـب الكـرك والقطبيـة بنـت الملـك المفضل قطب الدين ابن الملك العادل يتضرعون إلى الملك الناصر ويطلبون رضاه عـن الملـك المغيث فلم يجب إلى ذلك إلا بشرط أن يقبض المغيث على من عنده مـن البحريـة فأجـاب المغيـث إلـى ذلـك وعلـم بالحـال ركـن الديـن بيبـرس البندقـداري فهـرب فـي جماعة من البحرية ووصل بهم إلى الملك الناصر يوسف فأحسن إليهم وقبض المغيث على من بقي عنده من البحرية ومن جملتهم سنقر الأشقر وسكر وبرامق وأرسلهم على الجمال إلى الملك الناصر فبعث بهم إلى حلب فاعتقلوا بها واستقر الصلح بين الملك الناصر وبين الملك المغيث صاحب الكرك وكان مدة مقام الملك الناصر بالعساكر على بركة زيزا ما يزيد على شهرين بقليل ثم عاد إلى دمشق وأعطى للملك المنصور صاحب حماة دستوراً فعاد إلى بلده‏.‏

وفي أواخر هذه السنة أعني سنة سبع وخمسين وستمائة في أوائل ذي الحجة قبض سيف الدين قطز على ولد أستاذه الملك المنصور نور الدين علي بن المعز أيبك وخلعه من السلطنة وكان علم الدين الغتمي وسيف الدين بهادر وهما من كبار المعزية غائبين في رمي البندق فانتهز قطز الفرصة في غيبتهما وفعل ذلك ولما قدم الغتمي وبهادر المذكور أن قبض عليهما قطز أيضاً واستقر قطز في ملك الديار‏:‏ المصرية وتلقـب بالملـك المظفـر وكـان رسـول الملـك الناصـر يوسـف صاحـب الشام وهو كمال الدين المعروف بابن العديم قد قدم إلى مصر في أيام الملك المنصور علي بن أيبك مستنجداً على التتر واتفق خلع علي المذكور وولاية قطز بحضرة كمال الدين ابن العديم ولما استقر قطز في السلطنة أعاد جواب الملك الناصـر يوسـف أنـه ينجده ولا يقعد عن نصرته وعاد ابن العديم بذلك‏.‏

  ذكر مولد الملك المظفر محمود بن الملك المنصور صاحب حماة

وفـي هـذه السنـة أعنـي سنـة سبع وخمسين وستمائة في الساعة العاشرة من ليلة الأحد خامس عشـر المحـرم وثانـي عشر كانون الثاني ولد محمود ابن الملك منصور محمد ابن الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ولقبوه الملك المظفـر بلقـب جـده وأم الملـك المظفـر محمـود المذكـور عائشـة خاتـون بنـت الملـك العزيـز محمـد صاحب حلب ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلـاح المديـن يوسـف بـن أيـوب وهنـأ الشيخ شرف الدين عبد العزيز المعروف بشيخ الشيوخ الملك المنصور صاحب حماة بقصيدة طويلة منها‏:‏ أبشر على رغم العدى والحسد بأجل مولـود وأكـرم مولـد بالنعمة الغراء بل بالدولـة الزهـراء بـل بالمفخر المتجدد وافـاك بدراً كاملاً في ليلة طلعت عليك نجومها بالأسعد ما بين محمـود المظفـر أسفـرت عنه وما بين العزيز محمد ذكر قصد هولاكو الشام وفـي هذه السنة قدم هولاكو إلى البلاد التي شرقي الفرات ونازل حران وملكها واستولى على البلاد الجزرية وأرسل ولده سموط بن هولاكو إلى الشام فوصل إلى ظاهر حلب في العشر الأخيـر مـن ذي الحجـة مـن هـذه السنـة أعني سنة سبع وخمسين وستمائة وكان الحاكم في حلب الملك المعظم توران شاه ابن السلطان صلاح الدين نائباً عن ابن أخيه الملك الناصر يوسف فخرج عسكر حلب لقتالهم وخرج الملك المعظم ولم يكن من رأيه الخروج إليهم وأكمن لهم التتـر فـي الباب المعروف بباب الله وتقاتلوا عند بانقوسا فاندفع التتر قدامهم حتى خرجوا عن

البلد ثم عادوا عليهم وهرب المسلمون طالبين المدينة والتتر يقتلون فيهم حتى دخلوا البلد واختنق في أبواب البلد جماعة من المنهزمين ثم رحل التتر إلى إعزاز فتسلموها بالأمان‏.‏

  ثم دخلت سنة ثمان وخمسينوستمائة

ذكر ما كان من الملك الناصر عند قصد التتر حلب ولما بلغ الملك الناصر يوسف صاحب الشام قصد التتر حلب برز من دمشق إلى برزة في أواخـر السنة الماضية وجفل الناس من بين يدي التتر وسار من حماة إلى دمشق الملك المنصور صاحب حماة ونزل معه ببرزة وكان هناك مع الناصر يوسف بيبرس البندقـداري مـن حيـن هرب من الكرك والتجأ إلى الناصر فاجتمع عند الملك الناصر عند برزة أمم عظيمـة مـن العساكر والجفال ولما دخلت هذه السنة والملك الناصر ببرزة بلغه أن جماعة من مماليكه قد عزموا على اغتياله والفتك به فهرب الملك الناصر من الدهليز إلى قلعة دمشق وبلغ مماليكه الذين قصدوا ذلك علمه بهم فهربوا على حمية إلى جهة غزة وكذلك سار بيبرس البندقداري إلـى جهـة عزة وأشاع المماليك الناصرية أنهم لم يقصدوا قتل الملك الناصر وإنما كان قصدهم أن يقبضـوا عليه ويسلطنوا أخاه الملك الظاهر غازي ابن الملك العزيز محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن السلطان صلاح الديـن لشهامتـه ولمـا جـرى ذلـك هـرب الملـك الظاهـر المذكـور خوفـاً مـن أخيه الملـك الناصـر وكـان الظاهـر المذكـور شقيـق الناصـر أمهمـا أم ولـد تركيـة ووصـل الملـك الظاهر غازي إلى غزة واجتمع عليه من بهـا مـن العسكـر وأقامـوه سلطانـاً ولمـا جـرى ذلـك كاتب بيبرس البندقداري الملك المظفر قظز صاحـب مصـر فبـذل لـه الأمـان ووعـده الوعـود الجميلـة ففـارق بيبـرس البندقـداري الشامييـن وسـار إلـى مصـر في جماعة من أصحابه فأقبل عليه الملك المظفر قطز وأنزله في دار الوزارة وأقطعه قليوب وأعمالها‏.‏

  ذكر استيلاء التتر على حلب وعلى الشام جميعه

ومسير الملك الناصر عن دمشق ووصول عساكره إلى مصر وانفراد الملك الناصر عنهم‏:‏ في هذه السنة أعني سنة ثمان وخمسين وستمائة في يوم الأحد تاسع صفر كان استيلاء التتر على حلب وسببه أن هولاكو عبر الفرات بجموعه ونازل حلب وأرسل هولاكو إلى الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين نائب السلطنة بحلب يقول له‏:‏ إنكم تضعفون عن لقاء المغل ونحن قصدنا الملك الناصر والعساكر فاجعلوا لنا عندكم بحلب شحنة وبالقلعة شحنة ونتوجه نحن إلى العسكر فإن كانت الكسرة على عسكر الإسلام كانت البلاد لنا وتكونون قد حقنتم دماء المسلمين وإن كانت الكسرة علينا كنتم مخيرين في الشحنتين إن شئتم طردتموهما وإن شئتم قتلتموهما فلم يجب الملك المعظم إلى ذلك وقال‏:‏ ليس لكم عندنا إلا السيف وكان رسول هولاكو إليهم في ذلك صاحب أرزن الروم نتعجب من هذا الجواب وتألم لما علم من هلاك أهل حلب بسبب ذلك وأحاط التتر بحلب ثاني صفر وهجموا النواثر في غد ذلك اليوم وقتل من المسلمين جماعة كثيرة وممن قتل أسد الدين ابن الملك الزاهر بن صلاح الدين واشتدت مضايقة التتر للبلد وهجموه من عند حمام حمدان في ذيل قلعة الشريف في يوم الأحد تاسع صفر وبذلوا السيف في المسلمين وصعد إلى القلعة خلق عظيم ودام القتل والنهب من نهار الأحد المذكور إلى الجمعة رابع عشر صفر المذكور فأمر هولاكو برفع السيف ونؤدي بالأمان ولم يسلم من أهل حلب إلا من التجأ إلى دار شهاب الدين بن عمرون ودار نجم الدين أخي مردكين وداد البازياد ودار علم الدين قيصر الموصلي والخانكاه التي فيها زين الدين الصوفي وكنيسة اليهود وذلك لفرمانات كانت بأيديهم وقيل أنه سلم بهذه الأماكن ما يزيد على خمسين ألف نفس ونازل التتر القلعة وحاصروها وبها الملك المعظم ومن التجأ إليها من العسكر واستمر الحصار عليها وكان من ذلك ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر غير ذلك من أحوال حماة وأحوال الملك الناصر بعد أخذ حلب‏:‏ كان قد تأخر بحماة الطواشي مرشد لما سار صاحب حماة إلى دمشق فلما بلغ أهل حماة فتح حلب توجه الطواشي مرشد من حماة إلى عند الملك المنصور صاحب حماة بدمشق ووصل كبراء حماة إلى حلب ومعهم مفاتيح حماة وحملوها إلى هولاكو وطلبوا منه الأمان لأهل حمـاة وشحنـه يكون عندهم فأمنهم هولاكو وأرسل إلى حماة شحنة رجلاً أعجمياً كان يدعي أنه من ذرية خالد بن الوليـد يقـال لـه خسروشـاه فقـدم خسروشـاه إلـى حمـاة وتولاهـا وأمـن الرعيـة وكـان بقلعـة حمـاة مجاهـد الديـن قيماز أمير جندار فسلم القلعة إليه ودخل في طاعة التتر ولما بلغ الملك الناصر بدمشق أخذ حلب رحل من دمشق بمن بقي معه من العسكر إلى جهة الديار المصرية وفي صحبته الملك المنصور صاحـب حمـاة وأقـام بنابلـس أيامـاً ورحـل عنهـا وترك فيها الأمير مجير الدين بن أبي زكري والأمير علي بن شجاع ومعهما جماعة من العسكر ثم سار الملك الناصر إلى غزة فانضم إليه مماليكه الذين كانوا أرادوا قتله وكذلك اصطلح معه أخوه الملك الظاهر غازي وانضم إليه‏.‏

وبعد مسير الملك الناصر عن نابلس وصل التتر إليها وكبسوا العسكر الذين بها وقتلوا مجير الدين والأمير علي بن شجاع وكانا أميرين جليلين فاضلين وكان البحرية قد قبضـوا عليهمـا واعتقلوهمـا بالكـرك وأفـرج عنهمـا المغيـث‏.‏

لما وقع الصلح بينه وبين الناصر ولما بلغ الملك الناصر وهـو بغـزة مـا جـرى مـن كبسـة التتـر لنابلـس رحل من غزة إلى العريش وسير القاضي برهان الدين أبن الخضر رسولاً إلى الملك المظفر قطز صاحب مصر يطلب منه المعاضدة ثم سار الملك الناصـر والملـك المنصـور صاحـب حمـاة والعسكـر ووصلـوا إلـى قطيـة فجـرى بهـا فتنة بين التركماني والأكراد الشهرزوريـة ووقـع نهـب فـي الجفـال وخـاف الملـك الناصـر أن يدخـل مصـر فيقبـض عليـه فتأخر في قطية ورحلت العساكر والملك المنصور صاحب حماة إلى مصر وتأخر مع الملك الناصر جماعة يسيـرة منهـم أخـوه الملـك الظاهـر غـازي والملـك الصالـح بـن شيركـوه صاحـب حمص وشهاب الدين القيمري ثم سار الملك الناصر بمن تأخر معه من قطية إلى جهة تيه بني إسرائيل ولما وصلت العساكر إلى مصر التقاهم الملك المظفر قطز بالصالحية وطيب قلوبهم وأرسل إلى الملك المنصـور صاحـب حمـاة سنجقـاً والتقـاه ملتقـاً حسنـاً وطيـب قلبـه ودخل القاهرة وأما التتر فإنهم استولوا على دمشق وعلـى سائـر الشـام إلـى غـزة واستقـرت شحائنهم بهذه البلاد‏.‏